القائمة الرئيسية

الصفحات

قصة خبايا الانفس كاملة بقلم اسماء جاب الله

 جريدة أماليا 

قصة خبايا  الانفس

 بقلم اسماء جاب الله 

قصة خبايا الانفس بقلم اسماء جاب

يقف بردائه الأبيض بشموخ، وجه صارم وعينان تشعان ذكاء ومكرًا تعلوها نظارة طبية وكأنها درع واقي من شعاع ليزر يشع من عينيه إذ نظر، لا يبدو مألوفًا بالرغم من وسامته لا يمكنك أن تشعر بالارتياح في حضرته، دعوني أفتح لكم المشهد أكثر قليلًا لنرى كل ما هو موجود بالغرفة، لم تكن غرفة بالمعنى التقليدي بل كانت أقرب ما يكون لمختبر يحوي أقفاص كتلك التي تستخدم لحبس الفئران داخلها، ولكنها لم تكن تحوي فئرانًا بل كانوا بشرًا، امرأة ورجل يبدو على كليهما الإعياء الشديد والألم، تقرحت جراح أجسادهم وتجمدت عليها الدماء، اقترب ذو الرداء الأبيض من المرأة وكشف عن ذراعها، ثم أخرج محقنًا كان قد ملأه بسائل غريب ثم دكه في ذراعها، بدا الألم على محياها ولكنها كانت مستسلمة له تمامًا، وجهها كان ينطق أن الشاة ذبحت ولن يضيرها السلخ وإن كان على مراحل، فلذلك فليعيث في جسدها كيفما شاء فالستر قد كشف منذ أمد والحقائق كشفت وفتحت دراويس الماضي فكوكها لتظهر أنيابها الطاحنة والتي ستبيد الحاضر والمستقبل وتبتلعهم بكوب ماء كي لا تظمأ.


في الشارع الخلفي للمنزل تظهر فتاة في منتصف العشرين ربيعًا، جميلة كأميرة أسطورية ببشرتها البيضاء وخدودها الوردية، تتقدم برشاقة لتقطع الشارع المؤدي للمنزل وتحمل حقيبة خاصة بالأطباء أو ربما التمريض، يبهرك منظر شعرها الأسود وهو يتحرك وكأنه فرس جامح فُك عقاله عنوة فتمرد على فارسه إذ حركت رأسها يمينًا ويسارًا لتتأكد أن لم تلحظها عين، دلفت إلى المنزل وفتحت الباب بمفتاحها الخاص ثم نادت: يا أبي، أين أنت؟ 

لم تسمع جوابًا، فظلت تدور في المنزل باحثة عن والدها، الطبيب «هاشم أبو الفتوح»، قفزت فكرة إلى بالها أنه لربما يجلس بالمختبر الآن يتابع بحثه السري، فعقصت شعرها ووضعت الحقيبة جانبًا، وخلعت معطفها الوردي ثم فتحت بابًا في أرضية الغرفة ونزلت عدة درجات في سرداب، ثم أعادت غلق الباب خلفها واستخدمت هاتفها للإضاءة ونزلت السرداب، كما توقعت والدها لايزال في المختبر فلازل المصباح الأحمر مضيئًا كما هو منذ تركته، طرقت الباب ثلاث طرقات خفيفة ثم دلفت إلى المختبر عندما جاءها الإذن بالدخول، ابتسمت وحيت والدها ثم جلست برشاقة على المقعد المجاور وبدأت تداعب والدها بالحديث: يبدو أن النمر العجوز يتصبب عرقًا، لابد أنك مرهق من العمل الطويل

هاشم: لا ضرر ولا ضرار يا غادتي الحسناء، لابد من إتمام العمل، ولكن أين الإسعافات الأولية التي طلبتها؟ 

غادة: إنها بالأعلى، تركتها في الحقيبة وجئت أبحث عنك 

هاشم: أيمكنك إحضارها على عجل؟

غادة: لماذا يا أبي؟ لماذا سأحضرها في المختبر؟ ألست ؟!تريدها لتضعها في صندوق الإسعافات 

هاشم بصرامة: غادة 

غادة وقد تداركت أن والدها لا يحب أن يُسأل عما يفعل وخاصة إن كان بحثًا من أبحاثه: أنا أعتذر منك يا حبيبي، لا تؤاخذني إنه فضول الأنثى 

هاشم: أتثقين بي يا ابنتي؟ 

غادة: أجل أبي، أجل بالطبع أثق بك، سأذهب لإحضار الحقيبة وسأعود عما قريب 

هاشم وقد قرص خدها ملاطفًا: تلك هي ابنتي. 

خرجت غادة من الغرفة وأغلقت الباب خلفها، وعندما تأكد الطبيب من خروجها فتح حاسوبه ليستعرض ملف الفتاة التي حقنها منذ قليل، «سالمة الصواف، ولدت في الثالث عشر من شهر فبراير لعام ألفين وثلاثة وخمسين ميلادية مما يعني أن عمرها الآن خمسة وعشرين عامًا...»


التقطت كاميرا المراقبة صورة لسيارة شرطة تقف أمام المنزل، وينزل منها ضابط وشرطيين، ها قد حضر الضابط «زين العشري»، يبدو أنه موعد الخروج من المختبر الآن.

صعد الطبيب من المختبر السري وذهب إلى غرفة استقبال الضيوف، حيث قامت ابنته بتقديم القهوة للضابط زين وجلس مشرئبًا ينتظر قدوم الطبيب متوترًا، فقد اتصل به وأخبره بجملة واحدة من كلمتين «احضر حالًا» ثم أغلق الخط، وهذه علامة خطر.

جلس الطبيب وحياه وهو على استعداد الآن لكشف أوراق اللعبة للضابط، لاحظت غادة التوتر الذي يسود على الصمت فتنحنحت وبدأت الحديث إلى الضابط: ما سر زيارتك لنا يا سيدي بدون سابق موعد؟ 

زين: بل هناك موعد معقود مع الطبيب

غادة: حقًا؟ لمَ لم تخبرني يا أبي؟! 

هاشم وقد تجاهل سؤالها: أحضري الحقيبة والحقيني بالمختبر ومعك سيادة الرائد 

غادة: حتمًا 

تقدم الطبيب الموكب وبدأ يقول: هذا المنزل العتيق يشعرني بالانتماء دائمًا، في كل لبنة يحوي سرًا من أسرار من دخلوه وخرجوا منه، أسرارًا مدفونة في غياهبه السرمدية، تمامًا كعقل الإنسان، مخ مكون من ملايين الخلايا المرتبطة معًا، كل خلية بل كل وصلة تحوي سرًا دفينًا يكشف أسرار أخرى، وأحيانًا يحبس العقل ما به من بيانات ولا يفصح عنها لأنه لا يريد أن يفصح، هكذا بلا سبب تنسى الأحداث والمصائب، وهكذا تختفي تلك الغصة المؤلمة تدريجيًا حتى يختفي الحزن، النسيان مفيد غالبًا، ولكن أحيانًا عليك أن تتذكر، تخيلوا معي كيف سيكون الحال إن استنطقنا خلايا المخ وأخرجنا كل اللآلئ التي تحويها بين أصدافها، كم الجرائم التي ستحل، كم الحقائق، المشاعر المدفونة، الأفكار العبقرية التي لم تدون على الأوراق، خبايا الأنفس كلها ستطرح بين أيدينا، 

غادة: وصلنا، لندخل 

هاشم: أخرجي مطهر الجروح وبعض المراهم والمضادات ومحلول ملح، في هذا القفص جريحان داويهم يا ممرضتي الجميلة 

زين: جريحان!!

هاشم: أجل، زوج وامرأته تقاتلا على طريق الواحات وكانا على وشك الموت حينما التقيتهما وأحضرتهما إلى هنا لأعالجهم، ولكني لاحظت أن الزوجة تهذي بكلمات عن سرقة نخاع العظم من مرضى في مشفى قريب

غادة: لقد ضمدت جراحهم يا أبي، الرجل لديه جرح غائر في ذراعه الأيسر، كان يحتاج لحياكة فقمت بها 

هاشم: ابنتي أفضل ممرضة على الإطلاق 

ابتسمت الفتاة، وكان هذا اللطف يستفز الضابط زين والذي يبدو له الوضع غير طبيعي على الإطلاق، هذا الطبيب مختل أكيد، يجلس ومعه جريحين في الغرفة وهو بمزاج لمداعبة ابنته!! هل هذا طبيعي؟ أم أن الأطباء الشرعيين يكتسبون البرود الإنجليزي هذا كمهارات حرفية؟ فقاطعهم قائلًا: سيدي ماذا عرفت بشأن المرأة وسرقة النخاع تلك؟ 

هاشم وقد تطلع إليه بحدة: أنت تعرف جيدًا أنني على علاقة بجهات رسمية عليا، ومعي صلاحيات تجعلني أتحرر من بعض القيود الطبية والمهنية لإتمام مهماتي، وكنت في الفترة الماضية أعمل على بحث جديد، فقدت استطعت تركيب عقار من مادة ال «تايبوبيردين Typopriden» يمكنني من استعراض كل ما تخزنه خلايا الذاكرة بالمخ على شاشة حاسوبي، وقد حقنت المرأة بهذا العقار بعد أن ثبتت فعاليته وقلة آثاره الجانبية، والآن سأعرض عليك بعض المشاهد.

ازدرد زين لعابه وتعلق بصره بشاشة الحاسوب، فوجد رجلًا يواعد تلك المرأة وليس بزوجها، ووجده يتفق معها على تجارة الأعضاء للمرضى في المشفى التي يملكها زوجها، وعلمها كيفية سحب نخاع العظم من القدم باستخدام محقن خاص، وتعبئته في أنابيب بها نيتروچين مسال لحفظه، وكيف أخذ منها تلك الأنابيب وشراها وقبض ثمنها، وظل المساكين الذين سحبت منهم عظامهم عاجزين، مثلهم مثل الكراسي التي يجلسون عليها، وضعفت مناعتهم لعدم قدرة أجسادهم على تصنيع خلايا الدم البيضاء والتي يصنعها نخاع العظم، فأصبحوا بلا مناعة تقيهم من البكتريا فماتوا في أسبوعين على الأكثر، ثم رأى زوج المرأة وقد كشف أمرها، وحينما واجهها  لم تنكر،وأقرت بخيانتها له،بل وهددته إن فتح فمه بحرف ستفضح عنه أمورًا لم يكن يعلم أنها على علم بها، أمورًا من شأنها أن تلقيه في السجن حتى يتعفن، فاصطحبها في سيارته عنوة وخرج بها من المنزل، فتشاجرت معه وتبادلا الضرب حتى أصيبت أجسادهم بجروح وندوب كثر، ثم قابلهم الطبيب وهما على وشك الموت 

«هذا يكفي» 

قالها زين وألقى بجسده على أقرب مقعد وهو يلهث وكأنه خرج للتو من صراع مرير، كيف له أن يصدق ما رأى؟! كل شيء يبدو أسطوريًا، والرجل... الرجل الذي كان يواعد المرأة... أكان أبي!!! أكان أبي من يفعل كل هذا؟! أهذا حقيقي؟! ولماذا أتعجب؟ أنا أعلم غموضه ولكني لا أعلم خباياه، ويا ليتني ما علمت، أحيانًا يكون الجهل بالأشياء هو الأفضل للإنسان، وهذا هو العلم الذي لا ينفع الذي ينفر منه الناس ولكنهم في نفس الوقت يلهثون خلف معرفته إذعانًا لفضولهم، رأسي... رأسي يدور، وأحتاج للنوم.

غاب زين عن الوعي وتطلع الطبيب إلى ابنته متسائلًا: أتم كل شيء؟ 

غادة: أجل تم، وما عليك الآن سوى فتح حاسوبك واستنطاق عقل الضابط زين

الطبيب: تلك هي ابنتي


#خبايا_الأنفس

أسماء جاب الله

تعليقات

التنقل السريع